والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية ، فإن لم تقتله جرحته ، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمى في الحشيش اليابس ، فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل :
كل الحوادث مبداها من النظر = ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها = فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها = في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسرّ مقلته ما ضرّ مهجته = لا مرحبا بسـرور عاد بالضرر
والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه . ولِي من أبيات :
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا = أنت القتيل بما ترمي فلا تُصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له = توقّـه إنه يأتيك بالعطب
الفائدة الثانية : أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح ، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه .
الفائدة الثالثة : أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته ، وإذا استنار القلب صحّت الفراسة ، لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوّة تظهر فيها المعلومات كما هي ، والنظر بمنزلة التنفس فيها ، فإذا أطلق العبد نظرةً تنفّست نَفسُه الصعداء في مرآة قلبه فطمست نورها . كما قيل :
مرآة قلبك لا تريك صلاحه = والنفس فيها دائما تتنفس
وقال شجاع الكرماني : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، وأكل من الحلال لم تخطئ فراسته . وكان شجاع لا تخطئ له فراسة .
والله سبحانه وتعالى يجزى العبد على عمله بما هو من جنسه ، فمن غضّ بصره عن المحارم عوّضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته ، فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته ، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته .
الفائدة الرابعة : أنه يفتح له طُرق العلم وأبوابه ويُسهل عليه أسبابه ، وذلك بسبب نور القلب ، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات وانكشفت لـه بسرعة ونفذ من بعضها إلى بعض ، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم ، وانسد عليه باب العلم وطرقه .
الفائدة الخامسة : أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته ، فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة ، وفي الأثر : إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله . ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذُلِّ القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه .
قال الحسن : إنهم وإن هملجت بهم البغال طقطقت بهم البراذين إن ذل المعصية لفي قلوبهم ، أبى الله إلا أن يذلّ من عصاه .
وقال بعض الشيوخ : الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله .
ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه ، وفيه قسط ونصيب من فعل من عاداه بمعاصيه .
وفي دعاء القنوت : إنه لا يذلّ من واليت ، ولا يعـزّ من عاديت .
الفائدة السادسة : أنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر ، وذلك لقهره عدوه بمخالفته ، ومخالفة نفسه وهواه .
وأيضا فإنه لما كفّ لذته وحبس شهوته لله - وفيها مسرّة نفسه الأمارة بالسوء - أعاضه الله سبحانه مسرّة ولذّة أكمل منها .
كما قال بعضهم : والله للذّة العفة أعظم من لذة الذنب .
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحا وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما ، وهاهنا يمتاز العقل من الهوى .
الفائدة السابعة : أنه يُخلِّص القلب من أسر الشهوة ، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه ، فهو كما قيل :
طليق برأي العين وهو أسير .
ومتى أسَرَت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار :
كعصفورة في كف طفل يسومها = حياض الردى والطفل يلهو و يلعب
الفائدة الثامنة : أنه يسد عنه باباً من أبواب جهنم ، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل ، وتحريم الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول ، فمتى هتك الحجاب ضري على المحظور ولم تقف نفسه منه عند غاية ، فإن النفس في هذا الباب لا تقنع بغاية تقف عندها ، وذلك أن لذتها في الشيء الجديد ، فصاحب الطارف لا يقنعه التليد ، وإن كان أحسن منه منظرا وأطيب مخبرا ، فغض البصر يسدّ عنه هذا الباب الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه .
الفائدة التاسعة : أنه يقوي عقله ويزيده ويثبته ، فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب ، فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب ، ومُرسِل النظر لو علم ما تجني عواقب نظره عليه لما أطلق بصره قال الشاعر :
وأعقل الناس من لم يرتكب سببا = حتى يُفكر ما تجني عواقبه
الفائدة العاشرة : أنه يُخَلِّص القلب من سكر الشهوة ورقدة الغفلة ، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوقع في سكرة العشق ، كما قال الله تعالى عن عشاق الصور :
( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ )
فالنظرة كأس من خمر ، والعشق هو سكر ذلك الشراب ، وسُكر العشق أعظم من سُكر الخمر ، فإن سكران الخمر يفيق ، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات .
كما قيل :
سُكران : سكر هوى وسكر مدامة = فمتى إفاقة من به سكران ؟
ثم قال :
وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعاف أضعاف ما ذكرنا ، وإنما نبهنا عليه تنبيها ، ولا سيما النظر إلى من لم يجعل الله سبيلا إلى قضاء الوطر منه شرعا كالمردان الحسان ، فإن إطلاق النظر إليهم السم الناقع والداء العضال .
قال سعيد بن المسيب : إذا رأيتم الرجل يحدّ النظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه .
وكان إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهما من السلف ينهون عن مجالسة المُردان .
قال النخعي : مجالستهم فتنة . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله .
وقال رحمه الله :إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور ، والقلب كعبة ، وما يرضى المعبود بمزاحمة الأصنام ..
تدور عينك على المحرمات كأنه قد ضاع منك شيء !
..................